تدين الولايات المتحدة للأمريكيين السود بتعويضات عن مذبحة تولسا، و لكن أيضًا عن العبودية و عن عدد لا يحصى من عمليات الإعدام خارج نطاق القانون و المذابح العرقية الأخرى… في السابق تم تعويض الأعراق الأخرى ماليا عن كل المآسي التاريخية ما عدا « الزنوج » الذين ساهموا بشكل أساسي في بناء الدولة الأمريكية الحديثة و ثم تهميشهم في اضطهاد صارخ و مستمر حتى اليوم، غير أن جو بايدن أبى إلا أن يكون أول رئيس أمريكي يفتح فعليا هذا الملف و يتوجه إلى أوكلاهوما لإعلان أن السود في هذه الولاية تعرضوا لمذبحة عرقية حقيقية منذ 100 سنة خلت. / خالد فخار – مورابيا

مرت مائة عام منذ أن اقتحم حشد من الأمريكيين البيض – بدعم من الشخصيات السياسية و الشرطة – منطقة غرينوود في تولسا الواقعة في ولاية أوكلاهوما ، و المعروفة أيضًا باسم « بلاك وول ستريت » ، و قتلت ما يقدر بنحو 300 أمريكي من السود أثناء حرقها و نهبها للحي بأكمله. كانت هذه الجريمة التي لم تتم إدانة أي شخص بسببها، واحدة من أكثر حالات العنف العنصري خطورة في تاريخ الولايات المتحدة، حتى جاء الرئيس الجديد بايدن ليعترف رسميا بأن ذلك الحدث لم يكن شغبا بل مذبحة عرقية.
وقعت المعركة في أعقاب هجوم زنجي على امرأة بيضاء شابة، تلته مواجهات بين البيض و السود، ثم هجوم منظم تحولت على إثره مدينة تولسا إلى كومة من الخراب، حيث تركت خمسة عشر ألفا من السود بلا مأوى، و أعلنت حالة الطوارئ و استمر السكان البيض متحمسين في مطاردتهم للسود الذين فروا من منازلهم المحترقة للاحتماء في الغابة، و لم يعودوا إلى ديارهم إلا تحت ضغط الجوع و هم خائفون من الهجوم عليهم. حصل ذلك يومي 31 مايو/أيار وأول يونيو/حزيران عام 1921، و قام المسلسل الأميركي “الحراس” (Watchmen) بإعادة تلك الأحداث للواجهة عندما قدم تفاصيل ساعاتها الرهيبة على الشاشة الصغيرة عام 2019 ، و ليذكر الأمريكيين البيض بأبشع مذبحة تم تجاهلها طويلا.
مع هذا الاهتمام المتجدد بدأت الخطابات تتعالى بضرورة أن يُدفع للأمريكيين الأفارقة تعويضات عن الأموال و الخسائر في الأرواح، عن جريمة تولسا و عن القائمة الطويلة من أعمال العنف التي حدثت في الولايات المتحدة الأمريكية. طبعا، لن تلغي التعويضات مظالم الماضي – أو العنف الحديث المتمثل في تخفيضات الميزانية، التمييز في الحقوق و السجن الجماعي – و لكنها على الأقل تشير إلى نقطة تحول جوهرية تبدأ بالاعتراف و تنتهي – ربما – بالقبول و بالتعايش في سلم دائم. فقد تم أخيرًا الاعتراف بالجريمة التي ارتكبت ضد السكان السود في تولسا، و خصصت وسائل الإعلام حيزا أساسيا للذكرى السنوية.
أعلن الرئيس بايدن يومًا وطنيًا لإحياء الذكرى و عرض تفاصيل خطته لسد فجوة الثروة العرقية في البلاد، و احتفل حي تولسا، الذي كان قد بدأ طريقه نحو المصالحة منذ عام 1997 مع تأسيس لجنة للمتابعة و التي تشكلت من مؤرخين و ممثلين سياسيين، و أوصت بأن تدفع ولاية أوكلاهوما تعويضات في شكل منح دراسية و مبالغ مالية مباشرة، لكن أحفاد تولسا لم يتلقوا بعد مستحقاتهم منذ ذلك التاريخ.

قُتل السكان السود في المدينة و أُحرقت منازلهم و تم القضاء على أعمالهم التجارية، و لازالت نتائج ذلك ظاهرة حتى اليوم. و وفقًا لتقرير سنة 2020 الصادر عن منظمة هيومن رايتس ووتش، فإن معدل الفقر لدى التولسان السود يزيد عن ضعف معدل الفقر لدى السكان البيض. و كما جاء في التقرير « لا تزال آثار مذبحة غرينوود و التمييز اللاحق محسوسة حتى يومنا هذا، لا تزال الأحياء السوداء متخلفة و قليلة الموارد، إن عدم الثقة في الشرطة هو إرث من تلك المذبحة ».
يذهب العديد من المثقفين السود إلى أنه ليس من المعقول التركيز على تلك المذبحة فقط و يتحدثون عن أحداث مماثلة لتولسا، مثل انقلاب ويلمنجتون عام 1898، حيث قتل ما بين 60 و 300 شخص على يد مليشيا بيضاء سعت للإطاحة بالحكومة المحلية آنذاك، أو تفجير عام 1985، حيث ألقت إدارة شرطة فيلادلفيا قنبلة على منزل سكني مما أسفر عن مقتل 11 شخصًا من بينهم خمسة أطفال، و تدمير 61 منزلاً في أكثر من مجمعين في المدينة. و يذهبون إلى أكثر من ذلك عندما اعتبروا أن المشروع الحكومي للحرب على المخدرات غير شرعي بتاتا، بل هي عملية يشنها مكتب التحقيقات الفدرالي على مجموعات الحقوق المدنية و مناهضة القوة السوداء في أمريكا التي لم تتح لها فرصة العمل المستمر و المساهمة الفعلية في صنع القرار السياسي حتى اليوم، و هنا لابد من التذكير أن صافي ثروة الأسرة البيضاء النموذجية أكبر بنحو 10 مرات من ثروة الأسرة السوداء النموذجية في أمريكا، و أنه حان الوقت لرسم مسار جديد للتعايش و التسامح العرقي يبدأ فعليا بصرف التعويضات المالية.
على الرغم من أن الدعوة لاسترداد الأموال قد تبدو « متطرفة » بالنسبة للكثيرين، إلا أنها ليست مفهومًا جديدًا، و لن يكون الأمريكيون من أصل أفريقي أول من يحصل عليها، فقد تلقى العديد من قبائل السكان الأصليين الأمريكيين أشكالًا مختلفة من التعويضات المالية، و تلقى الأمريكيون اليابانيون 1.5 مليار دولار اعتذارًا عن اعتقالهم التعسفي خلال الحرب العالمية الثانية، كما ساعدت الولايات المتحدة في ضمان دفع تعويضات للشعب اليهودي من قبل ألمانيا بعد الهولوكوست، و تلقى العديد من مالكي العبيد البيض تعويضات بعد انتهاء العبودية، و تبعا للتاريخ الأمريكي يبدو أن السود هم الوحيدون الذين لم يتم تعويضهم ماديا على كل الهول الذين عاشوه و أجدادهم منذ استقدامهم و استعبادهم للإسهام قهرا في بناء الدولة الأمريكية، و ما يطالب به الأمريكيون السود اليوم هو إعادة الثروة التي سرقتها المؤسسات الحكومية و البنوك و المؤسسات المالية الأخرى التي اعتمدت أرباحها المبكرة على العبودية أو التمييز العنصري.
و إلى اليوم، لازالت بضع لوحات معدنية مثبتة في أسفل المباني الحديثة شاهدا على متاجر امتلكها أمريكيون سود قبل تدميرها في إحدى أسوإ المجازر العنصرية التي شهدتها الولايات المتحدة عام 1921 في مدينة تولسا، حينذاك كان هذا الحي مزدهرا لدرجة أنه أطلق عليه إسم: “وول ستريت الأسود »، و غالبا ما يذكر مسنو الحي أن البيض “جاءوا ودمّروا غرينوود وأحرقوا كل شيء »، و خلال هذا الأسبوع قام الرئيس الأمريكي جو بايدن بزيارة المدينة و إحياء الذكرى المئة للمجزرة، باعتباره أول رئيس أمريكي يحيي تلك الذكرى، فقد ألقى كلمته و وجه خطابه مباشرة إلى الناجين الثلاثة الذين لا يزالون على قيد الحياة، و تتراوح أعمارهم الآن بين 101 و107. إنها خطوة إيجابية على الأقل تظهر أن هناك تجاوبا فعليا مع الإدارة الأمريكية الجديدة خصوصا في ظل كل ما تعرفه البلاد من مواجهات عنيفة منذ مقتل جورج فلويد من طرف الشرطة سنة 2020، و ذلك يظهر فعليا الفرق بين الدول الديمقراطية الكبيرة و الدول التي لازالت مستمرة في استبداد شعوبها و عدم الاعتراف بحقوق الأقليات العرقية و الدينية.
تصريحات ليسي راندل أمام هيئة التحقيق العليا. (فيديو)

الكاتب:
خالد فخار (ليو) / Khalid FAKHAR (Leo)
مسؤول إدارة التحرير – مجلة « مورابيا »
إيميل: khalid@mpntv.com
رئيس تحرير لدى وكالة « تي في شوت للإنتاج السمعي البصري »
إعلامي، منتج تلفزي و باحث متخصص في مجال اللسانيات، السيميولوجيا و تاريخ الأفكار.