
يعرف « العالم العربي »، منذ بداية « الربيع الثوري » سنة 2011، ثورات اجتماعية و حروبا و نزاعات رهيبة تأخذ في مجملها شكل مواجهة بين الشعوب و الطبقات الحاكمة، طبعا هناك اختلاف كبير من دولة لأخرى و لكن الثابت و اللامتحول عند كل شعوب تلك المنطقة الجغرافية هو رفضها لسياسات حكامها و مطالبتهم بحريات و حقوق ملموسة و واقعية، بالمساواة و « الديمقراطية » باعتبارها أساس العدل الاجتماعي في العصر الحديث. / خالد فخار – مورابيا
ينتبه عدد قليل من الباحثين و الساسة من تلك المنطقة لسؤال أساسي في هذه الظروف العصيبة: هل الشعوب المسماة عربية (لأنها على المستوى العرقي و الثقافي متنوعة و متعددة) و التي في مجملها مسلمة في حاجة إلى الديمقراطية باعتبارها نظاما اجتماعيا و سياسيا نموذجيا؟ لأنه كلما نجحت ثورة شعبية في تلك المجتمعات إلا و صعد « الإسلاميون » إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع، و هذا يقودنا إلى سؤال آخر يثير الدهشة: هل تلك المجتمعات في حاجة إلى عدل اجتماعي و مساواة سياسية أم حاجتها الأساسية هي تطبيق الشريعة الإسلامية؟ و هل هناك إمكانية و حاجة فعلية لتطبيق الديمقراطية في العالم العربي المسلم؟
في القرن الثامن عشر و في إحدى الصالونات الفلسفية التي أسست لعصر الأنوار عبر أوربا، قام أحدهم بذكر أن العامل، الفلاح و المرأة لديهم نفس القيمة الاجتماعية التي يتوفر عليها البورجوازي أو الارستقراطي، و حدث أن قام الجميع ضده للتأكيد على أن ذلك غير صحيح بتاتا. كان ذلك بمثابة البدايات الأولى لتوجه أوربا نحو تجاوز القيم الدينية و الأرستقراطية بهدف التخطيط للحياة الفردية و الاجتماعية دون اعتماد المقدس العقائدي، استغرق كل ذلك عشرات السنين مع التأكيد أن التجارب الاجتماعية في الغرب كانت تختلف من مجتمع لآخر.
في سنة 1848 اندلعت ثورات « ربيع أوربا » التي كانت انطلاقة فعلية لفصل الدين عن الدولة و اعتماد ما يسنه البشر من قوانين لتدبير أمور البشر على الأرض، فكرة جوهرية لا بد للمحتجين في العالم العربي و الإسلامي أن ينتبهوا إليها، هل يطالبون بعدل و مساواة في إطار الدين أم خارجه؟ و بالطبع لا ديمقراطية داخل المنظومة الدينية لأنها تستلزم أمورا متعددة لا يمكن تحقيقها باعتماد الدين، أبسطها الاعتراف بحقوق الأقليات مثل المثليين و المتحولين جنسيا و اللائحة طويلة. اليوم ، نلاحظ أن تلك المساواة و تجاوز القيم الدينية قد أصبحت واقعا معاشا في المجتمعات الغربية تم الوصول إليها شيئا فشيئا عبر تحول تاريخي طويل تخللته العديد من السجالات الفكرية و المواجهات العسكرية.
السؤال الجوهري الآن هو هل المتمردون و السياسيون و المفكرون و الفنانون في “العالم العربي” لديهم القدرة على عدم اعتماد الشرائع الدينية في قوانينهم أم لا؟ طبعا ذلك لا يعني إطلاقا أن تلك المجتمعات ستتوقف عن ممارسة شعائرها و أعيادها الدينية، إنما المقصود بذلك أنه كلما تعلق الأمر بشؤون « المدينة » و تدبير أمور الجماعة سياسيا سوف لن يتم الاحتكام لشرائع السماء بل لشرائع و حاجات البشر على الأرض، خصوصا أن « الإنسان العاقل » أصبح أكثر تأهيلا – أكثر من أي وقت مضى – لتدبير أموره و نزاعاته ذات الطابع « الأرضي ».
عندما نطرح أسئلة من ذلك القبيل لا بد من التذكير أن إيقاع التطور عبر العالم في الزمن المعاصر لا يرحم، فإما أن تتقدم أو أن تتأخر عن الركب، لا مجال أن تلازم مكانك دون أن تنهزم لأن الأمر يتعلق بمعركة حقيقية و ليس بعالم يعمه الأمان و السلام. ما العولمة إلا سيرورة لتحويل العالم بأسره نحو قيم المجتمعات الغربية، و ذلك يمر حتما عبر مبادئ المساواة التي تم تطويرها في الغرب، و التي لا زالت مستمرة في الانتشار عبر العالم، إنه “مصير حتمي” حسب المفكرين و الساسة في الغرب، غير أن ثورات الربيع العربي تدحضه لأنها توجهت و دون استثناء في مرحلة “ما بعد الثورة” إلى الدين و ليس إلى فصله عن أمور الدولة.
غالبا ما نظن أن لديمقراطيات الغرب شكلا واحدا، على الرغم من أنها لا تعتمد نفس الخلفيات، فالثورة الأمريكية اعتمدت الدين في حين قامت الثورة الفرنسية على إقصائِه لتؤسس العلمانية. لا تختلف الديمقراطيات عبر عالم اليوم في تطبيقاتها داخل المجتمعات فقط، بل أيضا تعرف اختلافات على مستوى مراحل تطبيقها و تطويرها سياسيا و اجتماعيا. في الأمازون بأمريكا الجنوبية هناك قبائل لا زالت تحيا الآن فترة ما قبل التاريخ، و هناك مجتمعات تحيا الآن فترة ما قبل الحداثة مثل شعوب العالم العربي التي لا زالت تعتمد الدين و لا زالت الطبقات الأرستقراطية الدينية و السياسية هي التي تحكم المجتمعات. في مقابل ذلك، هناك مجتمعات دخلت فترة الحداثة و أخرى دخلت فترة ما بعد الحداثة مثل المجتمعات الغربية. و في سنة 1989، و بسقوط جدار برلين، دخلت الدول الشيوعية في نفس السيرورة أيضا، صحيح أن النظام الشيوعي تم تأسيسه بالاعتماد على مبدإ المساواة، و لكن في تطبيقاته المجتمعية يقترب أكثر مما هو ديني و عقائدي، حيث أن الدول التي طبقته لعقود كانت محكومة من طرف نخب سياسية و عسكرية لا تؤمن بالتعددية، و الغريب هنا هو أن الثورة الشيوعية لم تحصل في الدول المتقدمة آنذاك، مثل ألمانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية.
تنبأ كارل ماركس بذلك في زمنه و حينه و كانت نظرته ثاقبة، ظهرت الثورات الشيوعية في روسيا ثم الصين و هما دولتان كانتا متخلفتين في ذلك الوقت، فقد أكد لينين أن الثورة «تبدأ من الحلقات الأكثر ضعفا في السلسلة الاجتماعية»، و خلال القرن العشرين مرت روسيا نحو الفيودالية و إلى فترة ما بعد الحداثة دون أن تعيش فعلا هذه « الحداثة »، لأن مشروعها الاجتماعي فشل في حربه مع الغرب. أما بالنسبة للعالم الإسلامي و العربي، فالسؤال هو: هل الطبيعة العقائدية لهذه الشعوب متعارضة و قيم الديمقراطية؟ أم أن كل شعب لديه طرقه و وسائله لتحقيقها؟ يبدو أن الوصول إلى تطبيق « الديمقراطية » سيستلزم وقتا طويلا، و أنه لن يكون ممكنا إذا لم يمر بسؤال جوهري هو: هل تلك المجتمعات في حاجة إلى دلك النموذج الاجتماعي و السياسي أم لا؟ و الجواب على ذلك السؤال هو بمثابة مؤشر للنجاح و الفشل، و ذلك يضع النخب السياسية الحداثية و الدينية في موقف حرج.
لا بد من ذكر أن الفكر الإسلامي و العربي الحداثي يمران معا بمرحلة عصيبة و لا يجدان معا الأجوبة المقنعة لعامة الشعب، إن «فلسفة الشك» هي التصور الذي يهيمن على جميع النخب السياسية و الاجتماعية، و ينزل حتى أسفل الحلقات الاجتماعية، إذ حتى غير المثقفين و المواظبين على ممارسة شعائرهم الدينية يطالبون بتطبيق « إسلام معتدل » يصعب فهمه من طرف النخب المثقفة و المتدينة معا، عم يتحدثون؟ هل بالإمكان تصور اعتدال في ما حسم فيه المقدس بقاعدة أساسية مفادها ما جاء في القرآن بشكل صريح: ” أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ” [البقرة 85]، لذلك تتوجه أغلب الحركات الإسلامية إلى أخذ الإسلام كله غير منقوص و غير مجتزأ، و يؤكد علماؤها على أن ذلك واجب لا خيار فيه و لا نقاش حوله، إنه أمر واضح لا بد من استيعابه قبل الخوض في أي ثورة شعبية مطالبة بالديمقراطية على المقاس الغربي. يبدو أن الأمر يتعلق بمأزق حقيقي.
أي السجون أفضل؟ استبدادية الحكام و الطغاة أم سيوف « المتأسلمين » و دعاة تطبيق الشريعة في بيتك و عائلتك؟
خلال القرنين الأخيرين (19 و 20 ) كانت المهمة الأساسية بالنسبة للإنسان في الغرب هو التحرر من الضغوطات التقليدية، و خلال القرن التاسع عشر و حتى خلال عقود طويلة من القرن العشرين، و في أعقاب الفكر الرومانسي الذي يمجد «الأنا» قام بعض المفكرين مثل شوبنهاور، نيتشه، ماركس و فرويد بالتأسيس لـ «فلسفة الشك» التي نبعت من العدمية، و مرت عبر الماركسية و عبر علم النفس.. فسحت المجال للهدم، للتفكيك و لإعادة البناء الفكري وفق منظومات غير دينية. لقد تميز القرن العشرين بهدم كل ما يتعلق بالوجوديات، بنقد الإيديولوجيات أيضا، تجاوز و تحويل للقيم التقليدية، موت الله و الإنسان معا، نهاية التاريخ… عدد كبير من المفاهيم انتهت بتأسيس ثقافة ما بعد الاستعمار، إنها الفترة التي تعيشها اليوم المجتمعات الغربية و التي فرضت مقوماتها على كل مجتمعات البسيطة و بدون أدنى استثناء، و التي رجعت إلى الخلف بترساناتها العسكرية و التكنولوجية في انتظار ردة أفعال المجتمعات الأخرى خصوصا غير المسيحية.
لم يقع خلال التاريخ البشري أن طبقت كل المجتمعات عبر العالم نفس النظام الاجتماعي و السياسي، و لم يقع أن كان نظام واحد فقط مفروضا بقوة السلاح على كل البشر، و لابد من الوعي القهري بواقع غير متخيل البتة فمن هنا يمكن تفهم كل الاختلالات في المجتمعات العربية و عدم نجاحها في الثورة ضد استبداد أنظمتها. لم يعد لفكرة التحرر من قيمة بعد الثورات العربية، التحرر من ماذا؟ لأن الأمر أصبح يتعلق باختيار أي السجون أفضل، استبدادية الحكام أم سيوف « المتأسلمين » و دعاة تطبيق الشريعة في بيتك و عائلتك.

الكاتب:
خالد فخار (ليو) / Khalid FAKHAR (Leo)
مسؤول إدارة التحرير – مجلة « مورابيا »
إيميل: khalid@mpntv.com
رئيس تحرير لدى وكالة « تي في شوت للإنتاج السمعي البصري »
إعلامي، منتج تلفزي و باحث متخصص في مجال اللسانيات، السيميولوجيا و تاريخ الأفكار.