اعتبر الرجال لمدة قرون طويلة أن مناهضة الاستبداد السياسي واجبا شبه «مقدس»، سواء عبر احتجاجات سلمية أو عبر اللجوء إلى العنف الثوري و حتى المسلح، ظل الفشل مصاحبا لتلك المناهضة المشروعة حتى عندما كان يأخذ شكل “انتصار” كما حصل خلال الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، عندما تم تأسيس نظام جديد – بعد الثورة – يمارس اضطهادا من نوع آخر بل و أكثر قسوة، و كأن “الثورة” تدور في حلقة مفرغة منذ قرون لتعود عند كل مرة إلى أصلها الطبيعي الذي صاحب السياسة على الدوام: الاستمرار في استبداد الشعوب. هذه قراءة مبسطة في فشل الثورات الاجتماعية و استمرار طغيان الساسة و المثقفين.
يتعلق الأمر هنا بالقهر العلني الذي تمارسه الدول على الفرد، تذيبه في بنياتها و مؤسساتها و تجبره بالقوة على الإيمان بما قررته الجماعة، و إذا ما قررت « الحرب » عليه أن يموت لأجل عقيدة أو وطن تم ترسيم حدوده من طرف أقليات مسلحة و مهيمنة، فقد كتب الشاعر الإغريقي هومير في الإيليادة منذ مايزيد عن 2800 سنة خلت حول ذلك قائلا: « لا أحد يعرف لماذا يضحي الفرد بنفسه و ماله، و لا أحد يفهم لماذا يقرر حاكم ما أن يضحي بآلاف الرجال في حرب قاتلة لأجل أهداف واهية ». لقد تحدث هومير عن «قهر» الرجال لأجل بناء المجتمع، تلك كانت القاعدة، و لا زالت مستمرة بعد أن اتخذت وجوها متعددة: عرقية، دينية، وطنية…
ليست السلطة في حقيقتها و حسب الوقائع التاريخية سوى وسيلة للتمكن من وسائل العمل و إنتاج الغنى للأقليات و ليس لعامة الشعب، بمعنى تنظيم و تدبير كل ما يخرج عن نطاق الفرد، و عليه عندما يضبط الحاكم قبضته على السلطة مدعوما من طرف أقلية غنية و مهيمنة، يقوم مباشرة بإقصاء الفرد، و يبدأ الاستبداد و الطغيان، و لابد هنا من توضيح: ما معنى إقصاء الفرد في هذا السياق؟ و هل بالإمكان الحديث عن «الاستبداد» في زمن حقوق الإنسان و الديمقراطية؟ ما الذي تغير لدى الإنسان منذ عصور ما قبل التاريخ؟ إنه لم يتحرر بعد و ليس في الأفق آمالا للتحرر، لازال يعيش زمن «عبودية حداثية»، تطور بشكل خارق في العلوم و التكنولوجيا، في تقنيات الحروب و استراتيجيات الهيمنة على الآخر.. و لكن “الحرية الشخصية” الفعلية لم تتحقق بعد.
إنها «عبودية» حداثية، توافق العصر و الزمن، غير معلنة، يكمن تطرفها في كونها لا تفسح مجالا لفتح آفاق فكرية أخرى، لا خروج عن النموذج الذي يفرض منظومة من الأفكار تهم جميع مجالات الحياة في أدق حركاتها و سكناتها، عقيدة واحدة مفروضة على كل شعوب العالم أصبحت تسمى اليوم ب «الديمقراطية». يظهر ذلك جليا في أشكال الممارسة السياسية، فما معنى أن يقوم الفرد بتفويض سيادته السياسية لشخص آخر لمدة خمس سنوات كاملة، أن يمنحه حق التقرير و الفعل في حياته و مماته؟ و بعد ذلك يصبح «المنتخب» سيدا للأمر كله يمتلك كل الصلاحيات في اتخاذ قرارات حتى و إن كانت ضد إرادة المنتخبين أنفسهم، ما معنى أن يمنح الفرد سيادته لنواب يمثلونه و لا يساهم في صنع قرارات الدولة؟ و عندما ينتفض للمطالبة بحقوقه الطبيعية تواجهه ميلشيات الدولة المسلحة و المدربة بقمع رهيب و لا معنى له، و الأكثر من ذلك كله هو أنه ليس لديه الحق في حمل السلاح للدفاع عن نفسه.
إن أثمن ما لدى الإنسان منذ بداياته الأولى هي «الحرية الشخصية»، لم يحدث خلال تاريخه الطويل أن توافق مع ظروف العبودية و القهر، لأنه «كائن مفكر» كما يقول سيمون ويل، طبعا لا يتعلق الأمر هنا بحرية مطلقة و لا هوجاء تصل حدود الفوضى الاجتماعية، بل “حرية سياسية و اجتماعية” واضحة المعالم تمكنه من المساهمة في اتخاذ القرارات التي تهم حياته الشخصية، و التي تحولت على مر التاريخ إلى «حلم» لأنها لم تتحقق إلا خلال فترات قليلة و نادرة.
إن الحرية السياسية تقتضي – حسب العقل و المنطق – أن يحصل الفرد على متطلباته الأساسية دون صراع مع الآخر و دون أن يكون في حاجة للمطالبة بذلك، و دون الحاجة إلى “ثورة”، فقد مر وقت طويل دأب فيه الفرد على تفويض سيادته، على ردع رغباته لأجل بناء المجتمع، و أثناء ذلك تطورت التكنولوجيا و وسائل الانتاج، اكتظت الأسواق بالمنتجات المتشابهة و انخرطت شعوب العالم في القبول بنظام عالمي واحد، في تبني نمط فكر واحد استمر في خلق شخصيات متشابهة، لديها نفس الأذواق و الأحاسيس، و تقبل على نفس «المنتجات» بشكل مقدس تحول فيه «السوق» إلى معبد جديد، و تحولت فيه «الديمقراطية» إلى معتقد لا محيد عنه. لقد ابتدع الفيلسوف الإغريقي أفلاطون منذ 2400 سنة ما كان يسميه ب « المجالس الليلية »، حيث تجتمع الأقليات الحاكمة و الأرستقراطية بعد منتصف الليل فيما بينها لاتخاذ القرارات اللازمة عندما يخلد المواطنون إلى نومهم، و عند الصباح يتم إعلامهم بما تم الحسم فيه ليلا و ما ليس بمقدورهم رفضه، أفلاطون هذا هو نموذج المفكر السياسي في الغرب إلى اليوم، ذلك الرجل الذي كان من ألذ أعداء المساواة الاجتماعية و الذي قضى حياته في احتقار العامة و تبجيل الأغنياء.
لم يحصل في التاريخ البشري أن كان الفرد ضريرا كما هو اليوم، مفروضا عليه أن ينتمي لجماعة ما، لوطن ما أو لعقيدة ما. لم يعد هناك من مجال لصعود الجبال و الاستيطان عند ربوة رائعة مطلة على وادٍ مليئ بالوحوش و النباتات، فكل أراضي المعمور أصبحت في ملك الدول، لم يعد هناك من مجال للعيش في الظل حتى أن بعض الحكومات خلال القرن العشرين اتجهت نحو فرض «الاقتراع» على كل المواطنين، لأنه لم يعد بالإمكان أن لا تشارك في صنع «الخديعة»، مفروض عليك أن تلطخ يديك بالدماء، أن ترتكب “جريمة” ما قبل الاندماج في مجتمعك حيث لا مجال للتفكير أو اقتراح نموذج آخر أكثر تحررا بالنسبة للفرد، منفذ واحد نحو مصير واحد، حتى و إن لم تكن موافقا على ذلك لأن رأيك « الشخصي » لا يهم الدولة و لا مؤسساتها، و سيكون مصيرك هو السجن و التنكيل إذا ما عارضت عقيدتها السياسية و الدينية.
لم يحصل في التاريخ البشري أن اقترب الإنسان من تحقيق خلاصه النهائي من العبودية و الاستبداد كما اليوم، و داخل المجتمعات عوض أن تتحرر النواة التي هي الفرد ثم اعتقالها، تسييجها، استعبادها و استبعادها لأجل تحقيق مفهوم مجرد و غير واقعي يسمى « الوطن »، لأجل حدود جغرافية و عَلَمٍ عليه أن يرفرف باستمرار. لم يحصل في التاريخ أن فرض على كل شعوب الأرض نموذج سياسي و اجتماعي واحد كما يحصل اليوم، و ذلك يستلزم طرح أسئلة من قبيل: لماذا لا تستقل الشعوب بذاتها، معتقداتها و أخلاقها الاجتماعية؟ أن لا تؤسس برلمانات، أن لا تقترع نوابا لمدة خمس سنوات؟ أن تعتمد أنظمة سياسية أخرى موافقة لمسارها التاريخي، العقائدي و الأخلاقي؟ لماذا تدخل الشعوب في سباقات محمومة للتباهي بنوابها و أحزابها و بديمقراطية مؤسساتها؟ و في نفس الوقت لا تتناول «النظام النيابي و البرلماني» بالدراسة و التحليل لتقرير إن كان نموذجا يتوافق مع بنيات مجتمعاتها؟
إنه لمن الواضح في عالم اليوم أنه لا مصير للشعوب على المستوى السياسي إلا تطبيق نظام واحد يسمى ب « الديمقراطية »، مع العلم أن ذلك ليس صالحا لكل شعوب الأرض، فقد عاد الفلاسفة و المفكرون إلى أبراجهم العاجية و العالية و أصبح التفكير في أنظمة سياسية أخرى و موازية أمرا محظورا. إنه لأمر مثير للدهشة فعلا، لم يحصل ذلك في التاريخ البشري أبدا، ومنذ نهاية الحرب الباردة و سقوط جدار برلين سنة 1989 انتصرت الرأسمالية الليبرالية الغربية و أصبحت كل شعوب العالم تتسابق لأجل تطبيق نموذج سياسي واحد هو « الديمقراطية »، حيث لم يعد السؤال حول أنظمة سياسية أخرى بالسؤال المشروع و المنطقي. إن لفي ذلك إجحافا لا مثيل له، من حق الشعوب أن تختار أنظمتها السياسية، الاجتماعية و العقائدية، من حقها أن ترفض النموذج الغربي و أن تمارس السياسة دون برلمانات و دون أحزاب و دون انتخاب لأن ذلك يمنح الشرعية السياسية لأقليات غنية تستمر في ممارسة استبدادا و استعبادا لامثيل له على الطبقات الفقيرة.
لقد أصبح من الواضح اليوم أن البرلمانات و الحكومات عبر العالم – و خصوصا لدى المجتمعات غير المنتجة و غير المسلحة – أن لا عدل اجتماعي و لا مساواة في ظل “الديمقراطية” فهل من ثورات مضادة في وجه هذا النموذج الذي أثبت فشله الذريع.
الكاتب:
خالد فخار (ليو) / Khalid FAKHAR (Leo)
مسؤول التحرير مجلة « مورابيا »
إيميل: khalid@mpntv.com
مسؤول الإنتاج في وكالة « تي في شوت للإنتاج السمعي البصري »
صحفي، منتج تلفزي و باحث (اللسانيات، السيميولوجيا و تاريخ الأفكار)