ميكيافيللي الماكر و الداهية الذي غير مسار الممارسة السياسية للأبد، و الذي إلى اليوم لازال أغلب الساسة و الحكام يعتمدونه لبسط نفوذهم، و لا زال العامة يجهلون خطورته بصفته فيلسوف مخادع و غير ذي ذمة، يحتقر حقوق الشعب و آماله في مساواة اجتماعية عادلة و عاقلة، فمن هو ذلك الرجل الذي قضى حياته في استرضاء الحاكمين؟ و كيف تحول إلى مرجع أساسي شبه « مقدس » بالنسبة للرؤساء و الملوك لبسط نفوذهم على الشعوب و المقهورين؟ هذه قراءة خارج الفلسفة و مبسطة، نابعة من رغبة المجتمعات في عدل اجتماعي و واقعي… فهو الذي ينصح الحكام بفكرته الشهيرة القائلة: « إذا لم تكن مؤمنا بمعتقدات شعبك، أريهم أنك تؤمن بها لبسط نفوذك و سلطتك ».
بعد عمل شاق طيلة الصباح، اجتمع الحطابون تحت شجرة صنوبر ضخمة للإسترخاء و تناول وجبتهم الصباحية المفضلة: جبن و زيتون، نكت، قصص القرية و قهقهات… اعتاد الحطابون على حياتهم البسيطة و السعيدة، و لكن، و في قريتهم الصغيرة تلك، أصبح الجميع مهتما بعودة ابن القرية « نيكولو » بعد غياب دام لأكثر من ثلاثين سنة، كان منكسرا و متعبا عائدا بحكاية غامضة تحولت إلى سر يتناقله سكان القرية، فقد أصبح الحطابون معتادون على زيارة « نيكولو » كل صبيحة، يتوقف لمحادثتهم في كل شيء، ثم يمضي وحيدا متأبطا لكتبه لقضاء وقت طويل داخل الغابة، و عند وقت الغذاء كان يلتحق يوميا بحانة القرية ليقضي الظهيرة في لعب الورق و النرد…
لم يكن ذلك الرجل سوى « نيكولو مكيافيللي »، السياسي و الفيلسوف الإيطالي، صاحب أكبر نظرية في الواقعية السياسية و النفعية، عند كل مساء كان نيكولو يعود إلى بيته، يستحم ثم يرتدي ملابس البلاط ليبدو في أبهى حلة قبل أن يشرع في الكتابة، لمعاشرة الأموات و محاسبة الأحياء، لقد كان بصدد تأليف أشهر كتبه على الإطلاق، كتاب «الأمير». نحن في سنة 1513، حيث قام مكيافيللي بالعودة إلى قريته منفيا بعد أن قضى أكثر من 15 سنة في مجال السياسية، تقلد فيها مناصب كبيرة و دأب على الذهاب في بعثات دبلوماسية لتمثيل جمهورية فلورنسا الإيطالية قادته نحو دول متعددة، غير أن ذلك توقف لأنه كان من الداعين لقيام حكم جمهوري سقط بعودة عائلة ميديشي سنة 1512، ألقي عليه القبض، نكل و عذب و حكم عليه بالسجن المؤبد قبل تدخل الكنيسة للإفراج عنه و نفيه عن المدينة و البلاط، لذلك عاد مباشرة إلى « سان كاسيانو » حيث منزل عائلته، ففي طفولته كان والده المحامي و أمه الشاعرة يذهبان هناك عند حلول كل صيف.
لم يكن مكيافيللي في منفاه يخطط للثورة بل قرر مع نفسه كتابة «الأمير» لاستعطاف عائلة ميديشي، كان الأهم بالنسبة إليه هو العودة لممارسة السياسة و مصاحبة النبلاء و الأغنياء، و بالتالي كان موضوع كتابه هو «كيف يمكن احتواء الشعب، التحكم فيه للإستمرار و الدوام في الحكم؟»، و كما يقول هو نفسه «الغاية تبرر الوسيلة»، لأجل تحقيق الهدف المنشود الذي هو الاستمرار في الحكم حيث كل أساليب المكر و الاحتيال أصبحت مباحة في توصياته للأمير الحاكم، كان الرجل يولي كل اهتماماته لكيان سياسي دائم، قوي و طويل البقاء، إنه أول من تصور نشوء ميدان علماني صرف تكون قوانينه و مبادئه للعمل مستقلة عن تعاليم الكنيسة على وجه الخصوص.. و لهذا السبب أصر مكيافيللي أن على الساسة أن يتعلموا أولا كيف يكونون غير طيبين.

إننا هنا بصدد جوهر فكر مكيافيللي، أي تدبير شؤون المجتمع بمنأى عن الدين و المقدس، و لعل ذلك ما نجد أثره لاحقا حتى عند « روبيس بيير » عندما ذكر أن تفاصيل الثورة الفرنسية كانت حاضرة في نصوص ميكيافيللي، بمعنى أن روح هذه الثورة هو فصل الدنيوي عن الديني في إدارة السياسة و المجتمع، لذلك تذهب الباحثة الألمانية المعاصرة « حنة آرنت » إلى كون ميكيافيللي «أبا روحيا للثورة»، فقد عرف على الرجل منذ البداية، في زمن كانت الكنيسة في أوربا تتحكم في كل شيء، أنه يمتدح كل من تجرأ على تحدي البابا و الكنيسة، و من بينهم جماعة الوطنيين في مدينة فلورنسا الذين أعلنوا أنهم يضعون مدينتهم في موقع أرفع كثيرا من موقع أرواحهم، إنها عقيدة ميكيافيللي، جوهرها اللاعقيدة على المستوى الاجتماعي، و أساسها «حب المدينة».
لقد كانت روما قبل اعتناقها للمسيحية هي النموذج لدى ميكيافيللي، و كان ذلك مصدر إصرار عظيم على العنف اتجاه الشعب في كتاباته، لأن الهدف هو أن تنجح الدولة في «بداية جديدة»، مهما تطلب الثمن، لوضع سلطة جديدة تحتكم إلى القانون لأجل تدبير و تأطير سلوك المواطنين، و مرد ذلك لديه، هو ضرورة إيجاد سلطة مطلقة جديدة تحل محل السلطة الإلهية « المطلقة »، و لا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال سيادة شخصيات «متفوقة» قادرة على تسيير الآخرين حتى و إن تطلب الأمر عنفا و لم لا قمعا و قهرا، المهم هو أن تستمر السياسة الضامنة للاستقرار السياسي.
لقد كان الهاجس الوحيد المصاحب لميكيافيللي في كل كتاباته هو هاجس «الخوف من الشعب»، ورث ذلك من خلال قراءته لأكبر الفلاسفة بعد إعدام سقراط، فقد كان «واقعيا» أكثر في تحليلاته بحكم معرفته بالتاريخ السياسي لحوض المتوسط، و عليه ذهب في الفصل التاسع من كتابه الأمير إلى أن كل «مدينة» كيفما كانت إنما هي تعيش على إيقاع تجاذب دائم حول السلطة، الطبقة الحاكمة التي تهدف إلى استمرار هيمنتها، ثم الشعب الذي لا يتوقف عن المقاومة، يرفض الهيمنة، و إذا ما أتيحت له الفرصة يحاول مباشرة الاستحواد على تلك السلطة، إذن هناك قوتين متصارعتين باستمرار داخل كل مدينة في نظر ميكيافيللي الذي كان يهدف باستمرار للانضمام إلى الطبقة الحاكمة و إيفاذها بنظرية كاملة للاستمرار في الهيمنة، بمعنى الاستمرار في احتكار السلطة السيادية للشعب، و لا يمكن تحقيق ذلك إلا باعتماد جيش قوي و مدرب و دائم التأهب سواء خارج الإمارة أو داخلها، «فلابد للأمير أن لا يسمح لأفكاره بأن تذهب بعيدا عن مراس الحرب، و عليه في أيام السلم عليه أن يكون أكثر اهتماما بالحرب»، لأن على الحاكم أن يفضل خوف الناس منه على حبهم له، لأنها الطريقة الوحيدة لتجنب الكراهية و الضغينة، و يستمر المعلم ميكيافيللي في تلقينه للأمير و توصيته بالاحتياط الدائم اتجاه شعبه، و يذكره بأن الناس لا يترددون في الإساءة إلى من يحبون، و لكنهم مترددون في القيام بذلك إتجاه من يهابونه، و نختم حديثه بقوله أن : «الناس يحبون تبعا لأهوائهم و إرادتهم الخاصة، و لكنهم يخافون وفقا لأهواء الأمير و إرادته».
قام ميكيافيللي بقراءات كثيرة في منفاه، كان يقضي وقتا طويلا داخل الغابة برفقة كتبه فقط، و كان اطلاعه كبيرا على التاريخ السياسي لروما و إيطاليا، و من خلال اعتماده على وقائع تاريخية جاء تصوره واقعيا و مثيرا بالنسبة لمفكري و فلاسفة عصره، لا ينطلق ميكيافيللي مما يجب أن يكون بل مما هو كائن و معاش، بمعنى أن أسس تصوره للممارسة السياسية لا يعتمد متمنيات الشعب و رغباته بل على واقع استمرار الأمن و الاستقرار حتى و إن كان ثمن ذلك قمع الشعب و استبعاده.
لقد لا حظ ميكيافيل أن التاريخ السياسي البشري لم يكن موجها و محكوما بالأخلاق الطيبة و محبة الخير و العدل، بل على العكس من ذلك كان تاريخا مليئا بكل أنواع المكر و الاحتيال، الكذب و الخديعة، الاغتيال و التقتيل، و عليه أدرك « المعلم ميكيافيللي » بأن ذلك لن يتغير أبدا و بالتالي ليس بإمكان الحاكم أن يكون فاضلا و طيبا يستجدي حب الناس له، فسيكون ذلك من باب الجنون في نظره، بل على الحاكم أن يكون قاسيا و مهابا، محتكرا للسلط جميعها و محاطا بطبقة لا تجني ثمارا و لا تغتني إلا باستمرار حكمه. و لتعليل ذلك ذهب إلى القول بأن هناك فرقا شاسعا بين كيف تتم واقعيا حياة البشر و بين كيف يتمنون ذلك.
لقد فسح ذلك مجالا واسعا لا ختبار أفكار جديدة في مجال التدبير السياسي، لم يعد من الواجب على الحاكم أن يحترم الأخلاق الاجتماعية المتعلقة بالفضيلة و الشهامة، بل أصبج هدف السياسة مقتصرا قبل كل شيء على دور «الدركي» الذي لا يحركه سوى الهاجس الأمني، ذلك يعلو على كل القيم الاجتماعية الأخرى بما فيها الدينية، فقد همس ميكيافيللي في أذن الأمير الحاكم و المستبد قائلا بأن الدين ضروري للحكومة بغرض السيطرة على الشعب لا لخدمة الفضيلة و الإيمان الحقيقي، حتى أنه من واجب الأمير أحيانا أن يساند دِينًا ما و لو كان يعتقد ببطلانه.

منذ أفلاطون الإغريقي و حتى طوما الإكونيي خلال القرن الثالث عشر الميلادي، ظل كل الفلاسفة يقرنون السياسة بالأخلاق الاجتماعية النبيلة و الفضيلة، كان هدفها الأسمى أثناء كل تلك القرون الطويلة هو إسعاد الفرد، و مع ميكيافيللي ثم قطع كل تلك الصِلاتْ «الإنسانية» و «الإلهية»، و تحولت السياسة إلى قضية «قوة» و « جبروت سياسي »، لم تعد تستهدف تحقيق المثالي، بل أصبح نجاحها رهينا باستمرار الاستقرار الحافظ للأمن فقط، لم يعد هناك من أفق آخر بالنسبة للشعب، و ذلك التصور هو الذي سيبدأ منذ القرن السادس عشر في الهيمنة على مفكري أوربا و ساستها، على الرغم من أن المعلم ميكيافيللي لم يكن يقم بتأليف كتاب “الأمير” بنية وضع نظرية سياسية، لا على العكس من ذلك كان عمله تقنيا محضا وضع فيه وصفا دقيقا للممارسة السياسية و تاريخها، في شكل نصائح مختصرة تساعد أمراء فلورنسا على ممارسة حكم استبدادي دائم، لذلك أصبح بعض علماء السياسة المعاصرين يسمونه بالمهندس، وضع اللبنات الأولى لنظام يقوم على ضرورة الحفاظ على «أمن الدولة»، تلك الضرورة التي خولت للحاكمين تشريع قوانين و فرضها على المحكومين إذا ما اتفقت أقلية مهيمنة فيما بينها.
باسم «أمن الدولة» أزهقت الأرواح و ثم تقتيل و إبادة شعوب بكاملها. لقد دفع ميكيافيللي بالفلسفة و السياسة للخوف أكثر من الشعب و هيبته، و أصبح هدفها بالتالي هو احتكار سيادته و إيهامه بأن سعادته هي الهدف الأسمى للعمل السياسي، مع أن الحقيقة هو أن هدفه السياسة الأول هو إغتناء الطبقات الحاكمة و الاستمرار في الهيمنة.
خالد فخار – صحفي و باحث // سلسلة « جذور و أجنحة » – عن موقع مورابيا