لم تكن الأنظمة السياسية التي تم اعتمادها بعض الثورات الغربية سواء في بريطانيا، الولايات المتحدة أو فرنسا بأنظمة ديمقراطية، كان الفلاسفة و الساسة في القرن الثامن عشر متفقون على كونها أنظمة « نيابية و برلمانية » تعتمد الاقتراع و بإمكانها أن تكون ملكية كما في بريطانيا أو جمهورية كما في فرنسا و الولايات المتحدة، فالأساسي هو الحد من سلطة الملك، الكنيسة و الشعب، و وضع دستور بموجبه يتم تدبير أمور الدولة، و تعيين حكام عبر الاقتراع يمثلون العامة في مجلس نيابي يسمى بالبرلمان. كان المؤسسون الأوائل من أشد أعداء النظام الديمقراطي الذي يمنح السيادة للشعب، لأن هدفهم الأول كان هو إقصاؤه من العمل السياسي.
كان تأسيس النظام النيابي في القرن الثامن عشر بمثابة صدمة في بعض الأوساط الأوربية المثقفة التي كانت مستمرة في «حلمها الإغريقي»، كانوا على دراية كبيرة بكواليس النظام النيابي غير العادل اجتماعيا و الأرستقراطي، ففي انكلترا مثلا كان شرط التفوق أساسيا للالتحاق بالممارسة السياسية و كانت صفة المواطن تمنح لمن يملك عقارا، أما غير المالكين فتسقط عنهم تلك الصفة و لا يشاركون في الانتخابات الوطنية، أما للترشيح لمنصب سياسي فالباب كان مفتوحا فقط في وجه الملاكيين الكبار. أما في فرنسا، فكان يتم التفريق بين المواطن النشيط المؤدي للضرائب الذي لديه الحق في الاقتراع، و غير النشيط الذي يبقى خارج مدار السياسة، أما المناصب السياسية فكانت مخصصة للطبقة الغنية و الاستقراطية فقط، الملاكون الكبار و المؤدون للضرائب، و تم الاحتفاظ بالتصويت غير المباشر حتى بعد الثورة الفرنسية ذاتها. عندما ننتقل للولايات المتحدة الأمريكية، فإن أجواء الممارسة السياسية لا تختلف كثيرا عما كان سائدا في أوربا، كانت شروط المشاركة السياسية يحددها دستور كل ولاية، و لكن الطريق إلى الكونغريس كان دائما موجها باختيار يعطي الأولوية لطبقة الملاكين و الأغنياء، كان السائد في أمريكا هو أن الاستقلالية الاقتصادية التي يتمتع بها المسؤول السياسي تحصنه ضد الارتشاء و الفساد السياسي و بالتالي كان باب السياسة مفتوحا على مصراعيه للأغنياء و الملاكين الكبار فقط.
كان أغلب مؤسسو النظام النيابي في أمريكا و أوربا خلال القرن الثامن عشر يعلنون صراحة معارضتهم للديمقراطية، بل كانوا يستعملون الكلمة للحديث عن خصومهم «الشعبيين» الأكثر تطرفا، يظهر ذلك جليا عندما نعود لنصوص الأوائل من خطابات سياسية، مراسلات و مقالات صحفية، حتى في أشعارهم و نصوصهم الأدبية سواء لدى الأمريكيين أو الأوربيين. حافظت كلمة « الديمقراطية» على مفهومها الأصلي لأكثر من 2000 سنة متواصلة، منذ أثينا الإغريقية و حتى أواسط القرن التاسع عشر الميلادي فقد كانت تعني طيلة تلك الفترة الطويلة نظاما سياسيا يمنح السيادة الفعلية للشعب، الذي يدير أمور مدينته بنفسه، دون الرجوع إلى سلطة أعلى تسعى لفرض تصورها و تستلزم طاعة المواطن. نظام سياسي من ذلك القبيل أثار حفيظة النخب السياسية و المثقفة على مر التاريخ، لأنه في نظرها يؤدي حتما لكارثة سياسية، اقتصادية و أخلاقية، لأن الشعب بطبيعته غير عقلاني، و لأنه إذا لم يكن مراقبا من طرف سلطة عليا، فإنه سيقود المجتمع إلى العنف و الفوضى، و سينتهي الأمر بحكم سياسي يتأسس على استبداد الفقراء للأغنياء. مناضلو الثورة من أجل الاستقلال في أمريكا الشمالية أو الثورة الفرنسية لم يفترضوا في يوم ما أنهم «ديمقراطيون»، و لم يعلنوا أنهم يثورون لأجل تأسيس نظام ديمقراطي، بل العكس من ذلك كانوا يرون أن ذلك نظام «اعتباطي، استبدادي، دموي و غير متسامح، كما جاء في رسائل جون آدم الذي سيصبح نائب أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية جورج واشنطن، ثم رئيسا فيما بعد. بل إن المتداول بين ساسة أمريكا و فلاسفتها خلال تلك الفترة هو ما يمكن تسميته بـ «جنون الديمقراطية» حيث كان الجميع و بشكل ضمني يعتبرون النظام الديمقراطي الإغريقي يؤدي مباشرة إلى الفوضى الاجتماعية و عدم الاستقرار، و هي نفس الفكرة التي وجهت و ألهمت الثورة لفرنسية بروادها الكبار.
يتعلق الأمر هنا بمرحلة حاسمة من تشكل “الفكر السياسي الغربي” الذي يحكم العالم حتى اليوم، الذي تأسس على اتفاق سري و غير معلن بين المثقفين و الأغنياء و مفاده هو إبقاء الشعب خارج السلطة. نتحدث هنا عن مؤسسي النظام النيابي في الولايات المتحدة و فرنسا على وجه الخصوص، رجالات كان أغلبهم من أعداء الديمقراطية و لم يكن نضالهم من أجل حقوق للشعب، بل كانت رؤيتهم خاضعة لفضاء مغلق لا يتجاوز حدود الثورة ضد العرف الغربي و الدين المسيحي و بالتالي جاء تصورهم استجابة للأقليات الغنية و المثقفة. فقد ذكر طوماس جيفرسون Thomas Jefferson في أمريكا أن هناك أرستقراطية طبيعية تتأسس على الموهبة، القوة و الفضيلة، و هي المؤهلة لتسيير شؤون المجتمع و تدبر أمور السيادة السياسية، أما روبيس بيير Robes pierre في فرنسا فقد تحدث عن الأرستقراطية المنتخبة، أقلية غنية تنوب عن الشعب و هو ما يحيل مباشرة على جان جاك روسو الذي تطرق لثلاثة أشكال من الأرستقراطية: الطبيعية، المنتخبة و الوراثية، و ذهب إلى أن الأفضل هو الشكل الثاني، بمعنى طبقة غنية حاكمة و منتخبة.
في تلك المرحلة كانت الأنظمة السياسية التي تعتمد سيادة الشعب مرفوضة و على ذلك الأساس تم تأسيس نظام نيابي جديد، كانت المحادثات حول الدستور في أمريكا سنة 1787، و التي انتهت بإعلان الاتحاد فرصة بالنسبة للفيدارليين لاستعمال كلمة «ديمقراطية» في سياق يعكس تصورهم للكلمة و النظام معا: «الإفراط في الديمقراطية» كان يعني سلوكا سلبيا للغاية، و خرقا سياسيا يؤدي مباشرة للقمع و الظلم، و حسب جون آدمز John Adams، الذي كان نائبا للرئيس خلال ولاية جورج واشنطن ثم رئيسا بعد ذلك، فإن الفكرة القائلة بأن الشعب هو أفضل حامي للحرية فكرة غير صحيحة، بل إنها أسوأ ما يمكن تصوره، الشعب لا يقرأ و لا يفكر، بل من يمكنه القيام بذلك هو مجموعة أفراد صغيرة «متفوقة». لقد ذهب ألكسندر هاميلتون أحد الوجوه البارزة في الثورة الأمريكية إلى أنه لم يطرأ أي تغيير على القوانين و لا في شكل ممارسة الحكم، فقط غيرت الحكومة مقرها، و لم تحصل «الثورة» المبتغاة في الولايات المتحدة الأمريكية.
كان على النظام النيابي أن ينتظر حتى سنة 1840ليبدأ في استعمال كلمة الديمقراطية، لأنها حينذاك بدأت تحمل دلالات إيجابية بظهور الأحزاب السياسية، وحسب مجلة أمريكية كانت تصدر بمدينة بوسطن، جاء فيها سنة 1839 أن الحزب الذي لا يعتبره الجمهور ديمقراطيا لا يمكنه الهيمنة في الانتخابات، و هكذا قام «الحزب الجمهوري» أولا بإضافة الكلمة إلى تسميته الرسمية التي تحولت إلى «الحزب الجمهوري الديمقراطي» سنة 1828، ثم قام بتغيير ثان سنة 1840 ليصبح فقط : « الحزب الديمقراطي». أما في فرنسا فبدأت الكلمة تدخل معجم السياسة خلال نفس الحقبة تقريبا، خصوصا بعد أن تم تعميم الاقتراع المباشر على جميع الرجال البالغين، و بعد بداية ظهور التأثير الاشتراكي، الثورة الصناعية و ظهور طبقة شغيلة تعد بالملايين.
ماحصل بالفعل هو خلط في المفاهيم و التصورات التاريخية، فقد تحول الاقتراع الذي ظل لأكثر من عشرين قرنا كاملة إجراءا أرستقراطيا، إلى سلوك ديمقراطي، و تناسى التاريخ المعارضين في الغرب الذين لبثوا على مواقفهم المعارضة للنظام النيابي البرلماني، فقد كان تصور المعارضين يقوم على أن فئات عريضة من المجتمع لن تكون ممثلة في البرلمان، مثل الأمريكي صمويل شاس Samuel Chase، الذي كان يرى أنه من المستحيل أن تنجح زمرة من الرجال في تمثيل مصالح و مشاعر شعب بأكمله، و أن استعمال الاقتراع لوحده ليس كافيا لمنح المشروعية الكافية لمجلس النواب، إنه نظام يفسح المجال للأغنياء و المثقفين فقط، في حين تبقى فئات عريضة من العمال، الحرفيون، الفلاحون… غير ممثلة. بعد مواجهات و نقاشات حادة دامت لعقود طويلة في الغرب، تفوق «مناصرو الأرستقراطية البرلمانية»، احتكر الأغنياء ممارسة السياسة و تقنين التجارة و الاقتصاد، و كان عماد نموذجهم النيابي هو الاقتراع، و كان ذلك بمثابة انطلاقة لتصور سياسي جديد سيجد طريقه إلى شعوب العالم عبر جيوش الأمبريالية منذ نهاية القرن التاسع عشر. و تناسى الجميع أن ديمقراطية عالم اليوم ليست بديمقراطية حسب التصور الإغريقي للكلمة.
خالد فخار – صحفي و باحث // سلسلة « جذور و أجنحة » – عن موقع مورابيا