كان المعتقد السائد لدى عدد من مفكري القرن العشرين أن البشرية مقبلة على ما أسموه آنذاك ب « نهاية العمل »، اعتمدوا في تصورهم على التطور التكنولوجي الهائل الذي راكمه الإنسان حيث أصبح بوسعه صنع آلات متطورة و روبوتات تقوم بالعمل محله و بالتالي سيتحرر تدريجيا من العبء الثقيل الذي لازمه منذ الثورة الزراعية التي غيرت حياته تماما منذ حوالي 12 ألف سنة.
بدأ « العمل اليومي » الشاق مع الثورة الزراعية، و معها بدأ استقرار الإنسان لأول مرة في تاريخه داخل قرى تحيط بها بساتين و حقول استلزمت المواظبة على عمل يومي و دون انقطاع. في ذلك الفضاء الجديد ظهرت العديد من الحرف اليدوية و الصناعات الأولية و أصبح الإنسان محميا داخل القرى و ضامنا لغذائه دون الحاجة إلى خرجات لقنص الطرائد و جني الثمار، لقد شكلت الثورة الزراعية تحولا كبيرا في نمط حياة البشرية اعتبر فيها « العمل اليومي » واجبا شبه مقدس.
استمرت حياة البشرية على تلك الشاكلة لآلاف السنين، و في القرن العشرين ظهرت طفرة تكنولوجية هائلة حيث أصبحت الآلات تقوم بجزء كبير من العمل دونما حاجة إلى جهد بشري، ثم جاءت الروبوتات القادرة على محاكاة الإنسان و تحريره من العديد من الأعمال الشاقة، و في عنفوان تلك الثورة التكنولوجية الجديدة خلال القرن الماضي ظهرت مجموعة من المفكرين و الفلاسفة الغربيين الذين طرحوا لأول مرة فكرة « نهاية العمل » كتصور جديد بإمكانه أن يسعد البشرية لأنه من جهة أولى يضمن الاستمرار في إنتاج الغذاء و السلع، و من جهة أخرى يضمن للإنسان وقتا أكثر للتسلية، للاسترخاء و الترفيه. ففي فرنسا سنة 1900 ظهرت « العطلة المدفوعة الأجر » لأول مرة في التاريخ، حيث أصبح بامكان المأجورون الحصول على عشرة أيام للراحة سنويا، و ثم ذلك بعد احتجاجات و ثورات عمالية كبيرة في أوربا و أمريكا. هكذا كان القرن العشرين منذ بدايته مشرقا و حاملا للكثير من الآمال التي أصبح بالإمكان تحقيقها، و في تلك الأجواء بدأت فكرة « نهاية العمل » تتشكل لدى المفكرين.
و لكن الملاحظ اليوم، أن ما حصل هو عكس ذلك تماما، أصبح الإنسان المعاصر يعمل يوميا أكثر من أي وقت مضى، يشتغل طيلة حياته فقط لتحقيق ما هو في حاجة إليه « طبيعيا »: سقف لإيواء عائلته، غذاء، ملبس و استقلالية « نسبية » في اتخاذ قراراته الشخصية. منذ الطفولة المبكرة، تبدأ المدارس و المقررات التعليمية في إعداده نفسيا لسوق العمل و الإنتاج، و يدرك مبكرا أن « العمل » أمر حتمي و شرط أساسي للانتماء لعائلته و مجتمعه، أما النساء فوضعيتهن هي الأكثر إثارة للاستغراب، قمن بثورتهن المجيدة للمطالبة بالمساواة مع الرجل في القرن الماضي، نجحن في ذلك إلى حد ما، و النتيجة هي أنهن اليوم يشتغلن بدون انقطاع داخل البيت و خارجه، بمعنى أنهن يشتغلن أكثر من الرجل نفسه. إنها ليست بمساواة لا في الحقوق و لا في الواجبات، و الوضعية الراهنة للنساء الآن تستوجب « ثورة نسائية مضادة ».
لقد نجحت المجتمعات المعاصرة عبر التعليم و الإعلام في ترسيخ منظومة « خاطئة » لدى كل الأفراد و بدون أدنى استثناء، مفادها أنه لتكون ناجحا، محترما و ذا قيمة و مرتبة اجتماعية معينة، لابد أن تكون منتجا طيلة حياتك، لتجد نفسك منخرطا بشكل فعلي في منظومة « العمل و الإنتاج » بشكل هستيري لدرجة أنك تتصور أن لا حياة و لا سعادة حقيقية خارج مدار العمل اليومي. في ذلك يجيبنا الكاتب الأمريكي « مارك توين » – الذي عرف بسخريته اللاذعة – بملاحظة عميقة للغاية تفتح الباب أمام العديد من الأسئلة، مفادها أن الأفراد – عبر العالم – انخرطوا في إعلان رغبتهم في سلسلة غير محددة من الاحتياجات التي هم في الحقيقة ليسوا في حاجة إليها، بمعنى أن الإنتاج الغزير الذي انخرطت فيه الإنسانية لم يعد هدفه هو تغطية الحاجات الغذائية الواقعية للمجتمعات فحسب بل هو إغراق « السوق » بالمنتجات و السلع الغريبة، ذلك السوق الذي تحول إلى « معبد » تمارس فيه طقوس ديانة جديدة، عالمية و كونية هي « عقيدة الاستهلاك » المفرط لما نحتاجه و لما نحتاجه.
لم يعد الهدف في المجتمعات المعاصرة هو تحقيق « الأمن الغذائي » و تلبية الحاجات الأساسية و الضرورية للأفراد، بل هو الإغتناء اللامحدود و اللامشروط للأقليات الحاكمة و المهيمنة اقتصاديا في كل الدول، تقام الحروب و المظالم ليس لأجل إقرار العدل الإجتماعي بل للدفاع عن « السو ق » و استمرار مؤشرات نموه الحافظة لمصالح النخبة الثرية، لإغنائهم أكثر و أكثر… لم يعد الهدف « نبيلا » و « إنسانيا » كما خطط لذلك الفلاسفة منذ القرن الثامن عشر، لأنه على الرغم من توفر الغذاء في الأسواق و بكثرة، هناك فقر مدقع و عدم مساواة اجتماعية رهيبة، و حسب إحصائيات البنك الدولي لسنة 2015، هناك أكثر من 736 مليون نسمة عبر العالم يعيشون تحت عتبة الفقر، بمعنى 1,90 دولار أمريكي لليوم الواحد، و ننتظر الإحصائيات الجديدة التي ستصدر في خريف 2020.
لا يمكن للمجتمعات المتقدمة اليوم، و حتى المجتمعات « السائرة في طريق النمو؟؟ » أن تتفاخر بإنتاجها الغزير للغذاء ما دامت هناك مئات الملايين من البشر يعيشون في فقر مدقع، لا يستطيعون حتى تأمين غذائهم بل و فوق ذلك كله، مطالبون حتى بشراء المياه الصالحة للشرب التي هي من أبسط حقوقهم الطبيعية. إنه لأمر مثير للخجل فعلا. ليس ذلك فقط، لأن الآلة الإعلامية الرهيبة و الهوجاء التي أصبح بمقدورها الوصول إلى أكثر من 70 بالمائة من البشرية عبر البسيطة، مستمرة في تشجيع الأفراد على استهلاك أكثر و أكثر، حتى ما هم ليسوا في حاجة إليه: هواتف نقالة بكاميرات متطورة و سيارات فارهة، ساعات و أسفار للمتعة و الترف، في حين هم لازالوا في عتبة الحاجة للمواد الأساسية مثل الأرز و الخضر و اللحوم… و كأننا في مشهد سينمائي سريالي…. بمعنى الكلمة.
منذ بداية الألفية الثالثة أصبح « العنف الاجتماعي » المتمثل في الاحتجاجات الشعبية و الثورات ظاهرة عالمية، لم يعد مقتصرا على المجتمعات الفقيرة و الدول الديكتاتورية، بل أصبح ملازما للمجتمعات الغنية أيضا، حيث لا عدالة اجتماعية بدون أمن غذائي للجميع و تلك معادلة سياسية لا يمكن بأي شكل من الأشكال تجاوزها أو تغييبها. يدفعنا ذلك إلى إعادة طرح السؤال حول « النظام الرأسمالي » الذي أصبح – بالقوة لا بالفعل – هو أسمى الأنظمة السياسية و الاجتماعية على مر التاريخ، و أصبحت المجتمعات العالمية تتهافت على تطبيقه باعتباره أنبل ما أنتجته البشرية من أنظمة لتدبير أمور المجتمعات على الرغم من أن ذلك لايمثل إلا وهما كبيرا. لقد أصبح من الواضح اليوم – ما عدا بالنسبة لمن يصرون على غلق أعينهم و عقولهم – أن هدف ذلك النظام ليس هو الأمن الغذائي للجميع و العدالة الاجتماعية بل هو الاغتناء الفاحش للأقليات المهيمنة سياسيا و اقتصاديا.
توقع جوزيف شومبيتر، عالم الاقتصاد و العلوم السياسة الأمريكي مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في القرن العشرين أن الرأسمالية ستقضي على الفقر عبر العالم عند حلول سنة 1970، و نكتشف اليوم أن الرجل لم يكن إلا حالما و مثاليا أكثر من اللازم، ما تحقق اليوم بالفعل، هو أن ما لا يقل عن 2 بالمائة عبر العالم راكموا آلاف الملايين من الدولارات و حققوا درجة من الاغتناء لا يمكن وصفها إلا بالكارثة و التي لا تمت بصلة لأي نوع من العدل الاجتماعي الذي قضى لأجله الملايين من الثوار عبر العالم، في حين مئات الملايين من البشر لا زالوا يعيشون فقرا مدقعا رهيبا و مهددا للأمن البشري في المستقبل القريب.
ما تحقق بالفعل هو أن الدول عبر العالم قد طورت أجهزتها البوليسية لمواجهة و اضطهاد أي احتجاج شعبي، طورت ترسانتها القانونية لسجن و تعذيب كل من خولت له نفسه إعلان فشل الأنظمة الرأسمالية و الانتفاض لأجل مصالح طبقات الفقراء الصامتة و غير المتعلمة، ما حصل بالفعل هو أن أغلب هذه الدول منعت الحق في امتلاك الأسلحة و قامت بتسليح ميليشيات مدربة و « نظامية » لقمع كل المتظاهرين « غير المسلحين » و المنتفضين لأجل الغذاء و العدل الاجتماعي، ما حصل بالفعل هو احتقار للطبقات الفقيرة التي تقضي نحبها لأجل إغناء و تسمين أقلية تحمل على عاتقها أعظم الخيانات الفكرية عبر التاريخ، تلك التي تجاهلت ما أسس له فلاسفة الأنوار في القرن الثامن عشر، و منطلقاته الجوهرية: الأمن، الاستقرار و الغذاء للجميع لأن ذلك هو جوهر حقوق الإنسان. اليوم لم يعد هناك عبر العالم من نموذج اجتماعي يحتدى به، لأننا نحيا فشل تلك الأنظمة الرأسمالية و الديمقراطية (البرلمانية) المستمرة في ممارسة « الأمبريالية » بقفازات من حرير، خصوصا اتجاه الدول التي لا تقوى على تحقيق استقلالية حقيقية على مستوى « الأمن الغذائي ».
خالد فخار – صحفي و باحث // سلسلة « جذور و أجنحة » – عن موقع مورابيا