يحتدم الجدل بشأن شخصية السيدة اليهودية « أم هارون » التي يتناولها مسلسل يعرض في رمضان. هنا محاولة قراءة لصورة اليهود التي قدمها الإنتاج البصري العربي، منذ بدايات الإنتاج السينمائي في بدايات القرن العشرين.

“أم هارون”
اليوم نعيش نقاشاً محتدماً حيال مسلسل من الخليج مخرجه مصري، وكاتباه بحرينيان وممثلوه كويتيون وسعوديون وإماراتيون ومصريون، يطرح للمرة الأولى في بلدان الخليج رواية عن اليهود هناك. وعلى رغم أن المسلسل لم يوضح لنا ما هي الدولة التي تدور فيها الأحداث، إلا أن الغاضبين عليه يتهمون الكويت مرةً والسعودية مرةً والإمارات مرةً أخرى، ولكن الحكاية لا تخبرنا غير أنها تدور في منطقة الخليج في أواخر الأربعينات وبداية الخمسينات، وكانت تلك المنطقة تخضع للوجود العسكري البريطاني.
تعامل العرب وخصوصاً نخبهم الثقافية والسياسية عموماً، مع الخليج وشعوبه ضمن إطار الصورة النمطية المتعالية واعتبار المنطقة خالية من أي تقدم ثقافي أو أي صبغة حداثوية وأن الخليجيين ليسوا سوى بدو متخلفين لا علاقة لهم بالحضارة، وأن كل ما يملكونه هو النفط الذي يدر عليهم الأموال التي تجعل حياتهم رغيدة ومترفة، إلى حد التهتك وأن ليست لهم علاقة بهموم بقية الشعوب العربية والقضية الفلسطينية تحديداً.
و يفخر كثيرون من العرب بأنهم ساهموا في بناء دول الخليج بخبراتهم وكفاءاتهم في بدايات الخمسينات وأنهم وصلوا إلى صحراء قاحلة لا علم فيها أو تقدم وأن هؤلاء كانوا يسكنون الخيم، ويركبون الجمال إلى أن جاءت طفرة النفط التي لوثت عقولهم ونفسياتهم، فاستكبروا على من قدم لهم الخبرة والمساعدة والعلم وما إلى ذلك من مركبات مختلطة تنم عن عقد دونية وفوقية لدى الجميع.
هل من الغريب أو الخطير على الأمة أن تكون امرأة يهودية طيبة وقارئة للقرآن ومحبة لأهل قريتها أو مدينتها أو بلدها وهي لا تذكر إسرائيل وتعارض الاتجاهات بين اليهود الداعمين احتلال فلسطين؟ و كان دائماً يسهل مهاجمة ونقد دول الخليج لثراء أهلها وقلما وجدنا بين العرب من إمتلك معرفة وافية عن الواقع الإجتماعي والثقافي والسياسي لدول الخليج. ولذا ما أن يلوح في الأفق خطأ ما يرتكبه أفراد أو دولة خليجية بحق شعب أو قضية عربية حتى تكثر السكاكين لتعمل عملها في جسد المنطقة برمتها ولتوضع في إطار التعامل مع اسرائيل والتطبيع معها وإقامة العلاقات السياسية .
من سوء حظ مسلسل “أم هارون” أن سبقه بأيام ما صرحت به الممثلة الكويتية حياة الفهد حول الأجانب في بلدها وضرورة التخلص منهم بسبب وباء “كورونا”، مع أنها ليست في موقع القرار السياسي للقيام بذلك كما هو الأمر في لبنان مثلاً، الذي قررت فيه السلطة اللبنانية رفض عودة الفلسطينيين اللبنانيين من الإمارات إلى لبنان، البلد الذي يحملون وثيقة سفر من جهاز أمنه العام، ولم نجد تلك الأصوات لإدانة الحكومة اللبنانية.لقد ربط الغاضبون تصريحات حياة الفهد حول “كورونا” بالمسلسل الذي لم يكن عرض بعد لمجرد أنه يتحدث عن الخليجيين اليهود. صعّد الغاضبون حملتهم ضد حياة الفهد وفريق المسلسل واتهموهم بالتطبيع، وصار تصريح الفهد حول إجراءات ضد “كورونا” ضمن مخطط إسرائيلي جهنمي ضد القضية الفلسطينية.
في الحلقات التي بثت حتى الآن، وأرجو أن يكون الغاضبون قد شاهدوها كلها لكي يكون حكمهم على المسلسل نابعاً من رؤية موضوعية وليس من تعقيدات سياسية وعنصرية وجهل وعدم إدراك الواقع وتصورات مسبقة عن الخليج وعن العرب اليهود الذين رفضوا إسرائيل، ووقفوا إلى جانب الحق الفلسطيني كمواطنين عرب، لم أجد ما يبرر هذا اللغط والهراء عن التطبيع الذي أشعلت ناره الموقدة” قناة الميادين” المعروفة بتمويلها وانحيازها لإيران والممانعين المتحجرين في رؤيتهم القومية التالفة. في الحلقة الأولى.
يمكن أن نقول أن المسلسل ارتكب خطأً في الخبر الذي نسمعه من الراديو حول إعلان دولة إسرائيل من تل أبيب على الأرض الإسرائيلية، وهو خطأ ليس سياسياً فقط بل هو معرفي وركاكة في البحث والكتابة الذي قد يحدث في أهم الأفلام في العالم. وإلى جانب هذا الخطأ هناك خطأ آخر لم يلفت انتباه الغاضبين وهو قول أحد الشخصيات، إمام المسجد، إن اليهود احتلوا بيت المقدس إشارة هنا الى المسجد الأقصى الذي لم يحتل عام 1948 بل احتل عام 1967.
أم هارون سيدة خليجية يهودية أصلاً لكنها أسلمت وتزوجت من مسلم وعاشت في بلدها وساعدت الناس كطبيبة وأحبها الناس جميعاً وهي حافظة أسرارهم والقابلة القانونية الوحيدة والجاهزة في كل لحظة لتحل مشكلاتهم. والمسلسل مزدحم بالقصص العاطفية التي تربط ابنة الحاخام بشاب مسلم ومحاولتهما الهروب للزواج بعد رفض الأب تزويجها وحين يهربان تقبض عليهما الشرطة البريطانية، وترجعها إلى أهلها ويتم توقيف حبيبها محمد، وقصة المرأة المسيحية التي تحب مسلماً ولكنها تتزوج عمه بناء على موافقة القس أملاً بإدخال عائلة الزوج الى الدين المسيحي …أين التطبيع في كل هذا؟ هل من الغريب أو الخطير على الأمة أن تكون امرأة يهودية طيبة وقارئة للقرآن ومحبة لأهل قريتها أو مدينتها أو بلدها وهي لا تذكر إسرائيل وتعارض الاتجاهات بين اليهود الداعمين احتلال فلسطين؟
هذا طبعا لن يجعلني أغفل أن القناة التي انتجت العمل فعلت ذلك مستظلة على ما يبدو بقرار سياسي خليجي بالانفتاح على اسرائيل من دون أن يترافق ذلك مع ضغوط موازية لتوفير حل عادل للقضية الفلسطينية وفي حين لا تزال جماعات وطوائف في منطقة الخليج نفسها خاضعة للتمييز ومنتقصة المواطنة. لكن هذه الحقيقة لن تسقط حاجتنا لمقاربة مسألة العرب اليهود كما مسألة باقي الطوائف والجماعات في ثقافتنا على نحو يختلف جذرياً عما اعتمدناه خلال العقود الماضية.
لقد ذكرتني أم هارون بالحاجة أم العبد “سارة كوهين” التي أحبت شاباً فلسطينياً في يافا عام 1947 وتزوجته رغماً عن أهلها وحين حدثت النكبة هُجّرت معه الى لبنان لاجئة وعاشت في مخيم تل الزعتر وماتت منذ سنوات في منطقة قصقص، وكذلك الحاجة أم محمد الفلسطينية اليهودية التي عاشت طوال حياتها في لبنان مع زوجها الفلسطيني المسلم أيضاً، على رغم وجود أقارب لها في إسرائيل، وهاتان السيدتان كانتا من شخصيات فيلمي عن الفلسطينيين اليهود.
(المصدر: إيلاف)