تتحول الثورة في بعض الحالات إلى ظاهرة معدية، في مدينة ما تظهر الشرارة الأولى، ينتفض الشعب و يقف في وجه بنادق النظام، ثم تنتفض مدينة أخرى، ثم جهة أخرى، و دولة أخرى حتى تشمل قارة بكاملها، ذلك ما حصل في أوربا ابتداءا من سنة 1848. و ذلك ما يساعد على فهم مغاير للثورات العربية التي قامت منذ سنة 2011، و التي تحول أغلبها لحروب أهلية…
انطلقت « ثورة الربيع » الأوربي في 22 فبراير بمدينة باريس سنة 1848، حينها كانت القوانين تمنع أي نوع من التجمعات في الأماكن العمومية فقام المواطنون ابتداء من يوليوز 1847 بتنظيم مآدب و نزهات لمواصلة النقاش السياسي فيما بينهم، و كانت السلطات الفرنسية التابعة للملك «لويس فيليب الأول» تطاردهم كلما تلقت خبر اجتماع في مكان ما، غير أن عدد هذه المآدب أصبح يتضاعف بشكل كبير و كان أغلبها منظما من طرف الجمهوريين الذين قرروا أخيرا الخروج إلى الشارع يوم 22 فبراير 1848 بعد منع إحدى التجمعات. كان أغلب المحتجين ذلك اليوم من العمال و الطلبة، و في اليوم الموالي أرسل الملك وزيره الأول آنذاك « فرانسوا كيزو »، لملاقاة المتظاهرين و محاورتهم غير أن ذلك صعد الاحتجاجات، و توجهت الجماهير نحو وزارة الشؤون الخارجية ليبدأ الأمن بإطلاق الرصاص: 20 قتيلا كانت هي حصيلة المواجهات الأولى.
تأسيس الجمهورية الفرنسية الثانية
كانت الجماهير تجوب شوارع باريس، و أغلب الهتافات تنادي بضرورة الإصلاح السياسي، و برحيل الوزير الأول « فرانسوا كيزو »، الذي كان مضطرا لتقديم استقالته غير أن ذلك لم يكن كافيا، خصوصا بعد أن قام الحرس الوطني بعرض جثث القتلى وسط المدينة لإعطاء العبرة للآخرين. بعد ذلك قام المتظاهرون بهجوم عنيف على الحرس في نقط مختلفة من المدينة، و بدأت المواجهات الحقيقية و انتشر العنف في المدينة لتقوم الجماهير باحتلال قصر البوربون مقر البرلمانيين. و في يوم 25 فبراير 1848 ستتوجه مجموعة من الجمهوريين نحو «أوطيل دو فيل» لإعلان بداية الجمهورية الفرنسية الثانية من طرف الشاعر « ألفونسو لامارتين »، الذي وعد بتنظيم اقتراع مباشر مفتوح في وجه كافة المواطنين، و أطلق جملته الشهيرة: « الشعب مكان العرش». كان الملك « لويس فيليب الأول » هو آخر ملك يحكم فرنسا، و تنازل عن عرشه يوم 24 فبراير، ثم سافر متخفيا مع عائلته نحو انكلترا ليستقر هناك حتى وفاته سنة 1850.
جاءت الجمهورية الثانية في فرنسا بعدد كبير من الإصلاحات، و كان من ضمن أولى أولوياتها تحديد ساعات العمل في 10 يوميا، حرية الصحافة و حرية التجمعات، حذف قانون العبودية في فرنسا و في المستعمرات، ثم ما كان جديدا آنذاك بالنسبة لكل دول العالم، هو « الاقتراع المباشر » الذي يعبر فيه الشعب بطريقة مباشرة عن اختياراته. كانت فرنسا هي أول دولة تطبق ذلك، عندما تم إدراجه في دستور سنة 1791 و لكنه لم يتم العمل به حتى جاءت ثورة 1848. إنها الثورة التي ستثير شعوب و عمال دول أوربية أخرى، و على جدران مدينة باريس قام الثوار بتدوين الشعار الذي سيخترق الحدود و الأزمنة: «الجمهورية الفرنسية: الحرية، المساواة و الأخوة»
كانت أوربا حينذاك تعرف العديد من الأزمات السياسية تاني صادفت ظهور الطبقة العمالية المقرونة بالثورة الصناعية، لذلك عندما أصبح الشاعر لامارتين وزيرا للشؤون الخارجية في حكومة الجمهوريين بعد ثورة 1848، أول ما قام به هو إصدار بيان حدد فيه المبادئ العامة للسياسة الخارجية الجديدة لجمهورية فرنسا: « إعلان الجمهورية في فرنسا لا يقوم على معاداة أي حكومة عبر العالم. إن اختلاف أشكال السياسات المعتمدة أمر مشروع، و هو يتبع اختلافات و تنوع الشعوب فيما بينها» و أضاف: «إن الحرب ليست هي هدف الجمهورية الفرنسية»، لقد كان الهدف من بيان الفرنسيين هو طمأنة ملوك الجوار الذين كانوا متخوفين من تصدير الجمهورية الجديدة لثورتها و مبادئها العامة.
شرارة الثورة تندلع بأوربا
كانت أوربا تعرف موجة من السخط الاجتماعي خلال هذه المرحلة التاريخية، أصبحت الشعوب تطالب بالمزيد من الحريات، بصياغة دساتير ديمقراطية و بإنهاء الهيمنة الاستعمارية و الأطماع التوسعية داخل القارة الأوربية، خصوصا أن بعض الجهات من أوربا كانت تعرف نزاعات حدودية متعددة مثل شمال إيطاليا، هنغاريا، النمسا، ألمانيا، بولونيا.. لذلك جاءت ثورة الباريسيين في 22 فبراير 1848 كشرارة أولى فقط لنيران ثورات أخرى.
في الثالث من مارس من نفس السنة، قام المحامي و الصحفي الهنغاري « لويس كوسوت » بإلقاء خطبة للمطالبة بتأسيس هيئة برلمانية تمثل الشعب، ثم سيقوم بعد ذلك بترأس لجنة ستتوجه نحو فيينا عاصمة النمسا، في ذلك الوقت كانت هنغاريا الحالية جزءا من الأمبراطورية النمساوية، و تزامنت زيارة المحامي الهنغاري مع بداية الثورة في هذه العاصمة، و مثل باريس، قوبل التظاهر بعنف شديد ما جعل المتظاهرين يتكاثرون في أحياء متعددة من المدينة، و بعد يوم كامل من المواجهات العنيفة يظطر أمير متيرنيش إلى التخلي عن مهامه رسميا، و في الخامس عشر من مارس ستستقبل الحشود اللجنة الهنغارية بحفاوة كبيرة، حيث كان ذلك بمثابة اعتراف بدولة هنغاريا المستقلة، استقلال يمنحه الشعب مباشرة كهدية للشعب الهنغاري الذي عانى الكثير جراء الاحتلال النمساوي.