سلطت قمة مجموعة العشرين التي عقدت مؤخرا عبر الإنترنت الضوء على تحديات النمو الاقتصادي التي يواجهها العالم بأسره بسبب أزمة تفشي كوفيد-19 عالميا. فمنذ أن طلب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في الشهر الجاري من جميع موظفي المنظمة العمل عن بُعد في الفترة من 16 مارس إلى 12 إبريل، تلى ذلك صدور قرارات و أوامر من قبل العشرات من سلطات البلدان في العالم للجماهير بــ »البقاء في المنزل »، و هو ما لفت الأنظار مرة أخرى إلى مصطلح « اقتصاد تشاي » أي « الاقتصاد الرقمي ».
اقتصاد « تشاي » و الاستهلاك على الإنترنت
إن كلمة « تشاي » و تعني « المنزل » هي كلمة جاءت من كلمة « أوتاكو » في اللغة اليابانية و تنطق « تشاي » عند ترجمتها إلى اللغة الصينية، و كانت تشير في البداية إلى أولئك الذين يفضلون البقاء في المنزل وحدهم دون المشاركة في أي نشاطات اجتماعية. و في السنوات الأخيرة، صار اقتصاد « أوتاكو » الياباني يتضمن صناعات الرسوم المتحركة و ألعاب الفيديو و الصناعات المشتقة منها، و لكنه أخذ يتوسع بعد ذلك في الصين و غيرها من الدول الآسيوية ليشمل جميع النشاطات الاقتصادية التي يمكن للناس إنجازها في المنزل، مثل الاستهلاك عبر الإنترنت و العمل عن البعد و التسويق و الإعلانات على الإنترنت.
و يتماشى أمر « البقاء في المنزل » في دول العالم مع تقدم تكنولوجيا الاتصال الحديثة، ما دفع إلى تسارع ظهور مصطلحات مثل البيانات الضخمة و الواقع الافتراضي و الذكاء الاصطناعي و الحوسبة السحابية، و إلى تطبيق هذه التقنيات الجديدة في حياة رجل الشارع العادي، و من ثم دفع تطور اقتصاد « تشاي ».
و في الصين، حققت صناعة الاستهلاك عبر الإنترنت اختراقا كبيرا. فمنصة (JD.com) الصينية الشهيرة للتجارة الإلكترونية تبيع، على سبيل المثال، أكثر من 3 آلاف طن من المواد الخام الطازجة يوميا، وفقا لبرنامج تحليلي بثته القناة الاقتصادية لشبكة ((سي سي تي في)) الصينية في بداية مارس. و على مدار 30 يوما بدءا من 20 يناير إلى 18 فبراير، تم بيع أكثر من 88 ألف طن من المكونات الطازجة، بزيادة سنوية تتجاوز نسبتها 230 في المائة.
الاقتصاد الرقمي والعمل عبر الإنترنت
لم يقتصر اقتصاد « تشاي » على شراء المأكولات و المستلزمات اليومية فحسب، إذ صار حوالي 28 مليون شخص يتمتعون بخدمة التشخيص الطبي على منصة « علي جيانكانغ » (علي للصحة) منذ بداية يناير العام الجاري. و أشارت دراسة، نشرها مركز الأبحاث لتحليل المعلومات بجامعة رنمين الصينية في أوائل مارس الجاري، إلى أن العمل عبر الإنترنت قد يشكل بيئة عمل جديدة في العالم. و تابعت الدراسة نشاط منصة دينغ توك DingTalk، وهي منصة مكتبية متنقلة ذكية مملوكة لمجموعة Alibaba Group، لتقدر بأن أكثر من 100 مليار من الشركات والمؤسسات انضمت إلى منصتها و حوالي 200 مليون شخص يعملون عبر منصتها، فيما يستخدمها 3.5 مليون معلم و 120 مليون طالب منذ بداية فبراير.
و لم يقتصر اقتصاد « تشاي » على آسيا فقط. ففي سبعينيات القرن الماضي بالولايات المتحدة، و بسبب التلوث البيئي و الازدحام المروري، كان الناس يأملون في استخدام الاتصال عن بُعد للحد من التنقل. و مع زيادة عدد البلدان المتأثرة بالفيروس، نال سوق العمل عن بُعد نفس القدر من الإعجاب.
و وفقًا لمسح أجرته شركة Kelly Services الأمريكية المتخصصة في خدمات الموارد البشرية، فإن أكثر من ربع المستجيبين على مستوى العالم يعملون عن بُعد على الأقل جزءا من الأسبوع، و هذا الرقم يصل إلى 37 في المائة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. و أظهر استطلاع أجرته مؤسسة جالوب عام 2016 أن 43 في المائة من موظفي الولايات المتحدة يعملون أحيانا عن بُعد، بزيادة قدرها 4 في المائة عن عام 2012. كما أشارت بيانات التعداد السكاني الأمريكي الصادرة في 2018 إلى أن 5.2 في المائة من الموظفين الأمريكيين (8 ملايين) يعملون بالكامل من المنزل، و كان متوسط الدخل لأولئك الذين يعملون عن بعد أعلى من الآخرين.
كما أكد مسح أجراه المكتب الوطني البريطاني للإحصاء في الربع الأول من عام 2017 أن 13.6 في المائة من الموظفين في المملكة المتحدة يعملون من المنزل، منهم 5.5 في المائة يعملون بدوام كامل من المنزل، و8.2 في المائة على أساس العمل في المنزل و يخرجون لتلبية احتياجات العملاء في بعض الأحيان فقط.
و وجد موقع Job Flexjobs للتوظيف في الولايات المتحدة، أن عدد أنواع وأصناف الوظائف من خلال العمل عن بُعد يزداد بشكل كبير، فضلا عن ارتفاع عدد فرص العمل. و لا تزال صناعات الرعاية الصحية و الكمبيوتر، و تكنولوجيا المعلومات على رأس القائمة. كما شهدت صناعة التعليم عن بُعد نموا ملحوظا، بالإضافة إلى صناعات المبيعات وخدمة العملاء والأعمال والمحاسبة والتمويل عن بُعد.
التحول الرقمي في الشرق الأوسط
من ناحية أخرى، تمضى دول الشرق الأوسط قدما في هذا المجال. ففي نهاية فبراير الماضي، دخلت السعودية بشكل رسمي نحو تقديم إقرار تشريعات و مبادئ رئيسية خاصة بالتطورات التقنية و الرقمية المرتبطة بالاقتصاد، إذ أفصحت مؤخرا عن إعدادها مسودة تشريعية مختصة بمستجدات الاقتصاد الرقمي، ما يؤكد ذهاب الحكومة نحو التحول الجاد إلى مستويات تقدمية من واقع الاقتصاد التقليدي إلى تحديات الاقتصاد الحديث. و من أجل تحقيق ذلك، بذلت الحكومة جهودا في دفع تطور البنية التحتية، و تفعيل التقنيات، و تسخير الابتكار، و رفع المورد البشري، و تعزيز الثقة الرقمية، و دفع انفتاح السوق.
و في مصر، عجّل فيروس كورونا الجديد من عمليات التحول الرقمي في اقتصادها، بعد خطوات احترازية عدّة شرعت الحكومة في تطبيقها مؤخرا، وإعلان البنك المركزي عن حزمة إجراءات تضم حوافز للمعاملات الإلكترونية بدلا من الحضور إلى فروع البنوك. و كان يخطط بنك مصر لإنشاء أول بنك رقمي في البلاد خلال النصف الثاني من العام الحالي، و الذي يتيح تنفيذ جميع المعاملات إلكترونيّا.
و أوضحت مصادر مصرفية، أن الأيام الماضية شهدت إقبالا كبيرا على الاشتراك في خدمات البنوك الإلكترونية بصورة غير مسبوقة، بما يمكن الأفراد و الشركات من تنفيذ جميع العمليات دون الحاجة للذهاب إلى فروع البنوك. و رأى المحللون الدوليون أن سرعة التحوّل الرقمي في ظل تداعيات أزمة فيروس كورونا الجديد، أصبحت اتجاها عالميا، و قالت شيو ون، الخبيرة في شؤون الشرق الأوسط بجامعة بكين، إن القاهرة قد تقوم وسط الأزمة الحالية بتسريع خطى التحول الرقمي في استخدام البيانات الكبيرة و تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، و تسهّل إنشاء قواعد بيانات و برامج تعزز من تفعيل الرقمنة في التعاملات اليومية، و من ذلك تسريع مسيرة رقمنة المعاملات التي أطلقتها القاهرة عبر مبادرة التحوّل الرقمي في شهر يوليو الماضي.
و في الأردن، أعلن وزير الاقتصاد الرقمي والريادة مثنى غرايبة في بداية مارس، عن انضمام الأردن إلى شبكة الخدمات العامة الرقمية التي تم تأسيسها من قبل النرويج و منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف). أما البحرين فقد أصدرت تقريرا في مارس، أشارت فيه إلى أن المملكة تتبنى رؤية للنهوض بالبيئة الاقتصادية بمساعي التركيز على تنمية الاقتصاد الرقمي والنهوض بقطاع الضيافة و الفندقة.
(المصدر: شينخوا)